الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الأبناء هم حديث اليوم وحديث كل يوم .. بل هم حديث الإنسان ومحل اهتمامه منذ أوجده
الله تعالى في هذه الحياة ، يتمنى صلاحهم ويدعو الله أن يحقق له فيهم ما يريد
(( هو الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ليسكن إليها فما تغشاها حملت حملاً
خفيفاً فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين )
سورة الأعراف آية 189
وكلما بلغ الإنسان قدراً من النضج أدرك قيمة نعمة أبنائه وطلب من الله إصلاحهم
(( .. حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال ربي أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت
لها عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني
من المسلمين ))سورة الأحقاف آية 15 .
بهم تقر عيون الآباء وتزدان بهم الحياة (( ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين
واجعلنا للمتقين إماماً )) سورة الفرقان آية 74
وفي المقابل توجد صورة مفزعة لنمط من الأبناء ، يسئ إلى الآباء ، ويضيق بالتوجيه
ويجحد فضل الوالدين ، وينكر قيم الدين والإيمان (( والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني
أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول
ما هذا إلا أساطير الأولين )) سورة الأحقاف آية 17 .
ومع هذا التأثير للأبناء على إسعاد الآباء أو إشقائهم ، فإن الحياة كلما تعقدت
وكلما خطت البشرية خطوات على سلم الحياة المادية ، كلما زادت أعباء الآباء في تربية أبنائهم
وذلك لأنهم مصدر الثروة الحقيقة بالنسبة للفرد والجماعة ، فالمال ينضب والثروات المادية تزيد
وتنقص وهم الثروة الحقيقة التي تعتمد عليها الأمم ، بل إنهم الثروة التي تبقى للآباء بعد موتهم
فمن بين ما ينفع الآباء بعد موتهم دعاء الولد الصالح كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم .
ولا شك في أن المسؤولية كبيرة على الآباء وخاصةً وأن الدور التربوي للأسرة لم يعد له
ذلك التأثير القوي على الأبناء ، والذي يمكن أن يوصف بالضعف أو ما يمكن تسميته بقصور
الدور التربوي للأسرة بصفة عامة .
إن قصور الدور التربوي للأسرة قد جعلها تواجه في هذا العصر العديد من التحديات
ومن تلك التحديات ما يأتي :
= غلبة الطابع المادي على تفكير الأبناء ، فمطالبهم المادية لا تنتهي ولا يجد فيهم الآباء
تلك الحالة من الرضا التي كانت لدى الآباء أنفسهم وهم في نفس المراحل العمرية لأبنائهم
فالمتطلبات المادية رغم كثرتها في أيديهم ومع ذلك نجد أنها لا تسعدهم ، بل عيونهم على
ما ليس لديهم فإذا أدركوه تطلعوا إلى غيره وهكذا !!
= سيطرة الأبناء على الآباء وعلى عكس ما ينبغي أن تكون عليه الحال ، فقد درس عالم
النفس " إدوارد ليتن " هذه الظاهرة على الآباء في أمريكا وقرر أننا نعيش في عصر
يحكمه الأبناء ، فبدلاً من أن يوجه الآباء أبناءهم ، فإن الأبناء هم الذين يوجهون
سلوك آبائهم فهم الذين يختارون البيت ، ويشيرون بمكان قضاء العطلة
وإذا دخلوا متجراً مضى كل طفل إلى ما يعجبه ، وما على الأب إلا أن يفتح حافظته ويدفع 70 .
= روح التكاسل وعدم الرغبة في القراءة وتدني المستوى العلمي لكثير من الأبناء في الأسر .
= ما يسمى بصراع الأجيال ويقصد به اتساع البون بين تفكير الأبناء وتفكير الآباء
وعزوف الأبناء في كثير من الأحيان عن الاستفادة من خبرات جيل الكبار إذ ينظرون
إلى خبراتهم على أنها لم تعد ذات قيمة في هذا العصر الذي نعيش فيه .
= ما يعرف بالغزو الفكري والثقافي المتمثل فيما يشاهده الأبناء ويستمعون إليه عبر
وسائل الإعلام المختلفة من أفكار وقيم قد لا تكون في كثير من الأحيان متفقة مع قيم
مجتمعاتنا . هذه بعض التحديات التي تواجه الأسرة وتؤثر سلباً على قيامها بدورها التربوي المطلوب .
وإذا كنا قد حددنا أمثلة من التحديات فما علينا إلا أن نبيين كيف يمكن للأسرة أن تتغلب على تلك السلبيات أو على الأقل كيف تقلل منها .
أولاً / بالنسبة لغلبة الطابع المادي على الأبناء ، فلا ينكر أحد أن هذه الظاهرة إنما هي
سمة من سمات هذا العصر ، فالتقدم المادي ينطلق بسرعة هائلة ولا يواكبه التزام
بالقيم الإنسانية .
وعلى ذلك فالأسرة مسؤولة عن تدعيم هذا التفكير المادي لدى الأبناء ، لأن الآباء أنفسهم
حريصون على هذا الجانب المادي .
ولا ننكر أهمية المادة في حياة الإنسان ، ولكن لا بد من توازن الجانبيين ، فالمادة يجب
أن تكون معياراً نقيس به ما لدينا من قيم إنسانية ومبادئ خلقية ، وديننا يعلمنا ذلك ،
فقد ربطت آيات القرآن الكريم بين الجانبيين رباطاً متجانساً منسجماً ، ولا أدل على ذلك
من أن الإخبار بإكمال الدين قد أتى جزءاً من آية بيان المحرمات في المأكل والمشرب
قال تعالى : (( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة
والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب
وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً فمن اضطر في
مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم )) سورة المائدة آية 3
بل إن القرآن قد اعتبر دع اليتيم وعدم الحض على طعام المسكين اعتبره تكذيباً بالدين
فقال سبحانه تعالى : (( أرأيت الذي يكذب بالدين . فذلك الذي يدع اليتيم . ولا يحض
على طعام المسكين ))سورة الماعون آية 1 - 3 .
ثانياً / سيطرة الأبناء على الآباء :
ولعل هذه المشكلة سببها ما يشعر به الآباء من تقصير تجاه أبنائهم ، فالأب مشغول طول وقته
والأم كذلك لا سيما إن كانت عاملة ، ومن هنا يكون سلوك الآباء إلى محاولة إرضاء
الأبناء كنوع من التعويض عن التقصير معهم ، فتكون النتيجة الاستجابة لكل طلبات الأبناء
وتنفيذ ما يريدون صواباً كان أم خطأً ، والذي يجب الانتباه إليه هو أن لهؤلاء الأبناء حقوقاً
تعطى لهم ولا تنتقص ، فمن حقهم أن يجدوا آباءهم وأمهاتهم معهم وقتاً كافياً
لاسيما في مرحلة الطفولة ، ومن حقوقهم أن يعيشوا طفولتهم ، فلا يتعجلهم الآباء وكأنهم
يريدون القفز بهم إلى الرشد قبل أن يصلوا إليه حقيقةً ، فمن الخطأ الجسيم أن ننظر
إلى الطفل على أنه رجل مصغر ، يقول " روسو " : يشكو الناس من حالة الطفولة
ولا يرون أنه لو لم يبدأ الإنسان حياته طفلاً لهلك الجنس البشري ، وإذا أعطيناهم
مالهم من حقوق ففي هذه الحالة لا تكون هناك حاجة للتعويض عن التقصير معهم .
ثالثاً / روح التكاسل عن القراءة وتدني المستوى العلمي :
على الأسرة دور كبير في تدعيم قيمة القراءة لدى الأطفال منذ الصغر ، ولا شك في أن للعادة
تأثير خطير على الإنسان سلبيةً كانت أم إيجابية
وكذلك فإن للصغار قدرة هائلة على التقليد فيجب استثمارها ، بمعنى أن يحرص الآباء
والأمهات على القراءة ، وما تراه مع الأسف في كثير من الأسر من عزوف الوالدين
عن تلك العادة النافعة إنما هو من الأسباب التي تؤدي إلى ما يكون عليه حال الأبناء
مستقبلاً ، وكما قال القائل :
مشى الطاووس يوماً باعوجاج *** فقلد شكل مشيته بنوه
فقال : علام تختالون ؟ قالوا : *** بدأت به ونحن مقلدوه
فقوم مشيك المعوج إنا *** إن عدلت به معدلوه
وينشأ ناشئ الفتيان منا *** على ما كان عوده أبوه
ويعد وجود المكتبات في البيوت في حد ذاته تدعيماً لعادة القراءة لدى الأطفال
وقد روي أن الصاحب ابن عباد كانت له مكتبة خاصة في القرن العاشر الهجري تضم
ما يوازي كل الكتب الموجودة في أوربة مجتمعةً في ذلك الوقت
لقد امتازت بيوت المسلمين في عصر الصحوة الإسلامية بمكتباتها ، فقلما تدخل بيتاً
إلا وتجد فيه مئات الكتب
والذي يجب الاهتمام به أن تشتمل المكتبات التي تتوافر في الأسر على كتب تناسب
الأطفال حتى يجد الطفل ما يشجعه على القراءة بعد أن يجد القدوة في والديه
رابعاً / ما يعرف بصراع الأجيال واتساع البون بين تفكير الآباء وتفكير الأبناء :
لا ينكر عاقل أهمية انتفاع جيل الصغار من جيل الكبار ، وإذا لم يحدث ذلك فتكون النتيجة
أن يبدأ كل جيل من نقطة الصفر ، وهذا مستحيل ..
وإذا كان العالم يشهد طفرة هائلة من التقدم العلمي ، ولا شك في أن هذا الكم الهائل من العلم
والمعرفة لم يصنعه جيل واحد بعينه ، وإنما هو خلاصة فكر الأجيال إذ يضيف كل جيل إلى جهد
سابقيه ، وهكذا تبدو أهمية احترام ما لدى جيل الكبار من خبرات يستفيد منها من بعدهم
يعدلون فيها ويضيفون إليها ، ولكن الخطر كل الخطر أن يعزفوا عنها ويقللوا من أهميتها ..
قد يحدث اختلاف لكن هذا الاختلاف لا ينبغي أن يكون سبباً في الصراع والتنافر
وقد كان الخلفاء المسلون يحترمون علماءهم ممن هم أكثر منهم خبرةً ، فهذا الرشيد
يلاطف الأصمعي ويقول : هكذا وقرنا في الملأ ، وعلمنا في الخلاء ..
وروي أن المناظرات كانت تعقد في البيوت الإسلامية ، وكان يشترط المتناظران أن يبني
كل منهما مناظرته على أن الحق ضالته والرشد غايته.
خامساً / ما يعرف بالغزو الفكري والثقافي :
إن كثيراً من الأسر تواجه بعض التحديات فيما تجد من تأثر أبنائها بما يقرءون
أو يشاهدون أو يسمعون عبر وسائل الإعلام المختلفة ، وتمثلهم لبعض القيم التي قد لا ترضى
عنها الأسرة في كثير من الأحيان ، وتكون النتيجة أن ما تغرسه الأسرة من قيم أخلاقية
تقتلعه تلك الوسائط الأخرى ، والحقيقة أن هناك اتجاهين في مواجهة ما يفد إلينا عبر
وسائل الإعلام :
أحدها : يتنكر لكل ما يأتي إلينا سواءً اتفق مع شريعتنا أم اختلف معها ، وحجة القائلين
به أنه في عالم الاقتصاد لا يلجأ الفرد إلى الاستدانة ما دام له رصيد مذخور ، والمسلمون
لديهم تراث حضاري هائل حتى في العلوم الطبيعية التي استفادت منها النهضة الأوربية
ويستدلون على ذلك بأن العرب قبل الإسلام كانوا أمة متأخرة فلما جاء الإسلام تقدموا
به وجعلهم سادة ، فإن أرادوا العزة بغيره أذلهم الله
ويرى أصحاب هذا الرأي أن ما لدى غيرنا من قيم هي في الغالب تتنافى مع ديننا فمنها
من ينظر إلى الحياة على أنها هي الوجود البشري كله فلا بعث ولا حساب ولا جزاء
فماذا نستفيد من قيم هؤلاء !
أما الرأي الثاني : فعلى عكس الرأي الأول إذ يرى أن نفتح نوافذ المعرفة على كل اتجاه
ونتعرف على كل جديد ، ونزن هذا بميزان الشرع والعقدية فما تعارف معها قبلناه
وما تناكر معها رفضناه ، وحجة هؤلاء القائلين بهذا الرأي : أن العلم لا دين له ولا وطن
والمعرفة ليست ملكاً لدولة ولا حكراً على أمة ، وإنما هي للبشرية كلها ، فمن انتفع بقانون "
ارشميدس " لم يصبح يونانياً ، ومن اقتبس نظريات جابر بن حيان والخوارزمي وابن سينا
والرازي لم يصبح عربياً مسلماً ، ومن اقتبس قانون الجاذبية لنيوتن لم يصبح انجليزياً
والحقيقة أن هذا الموضوع يتطلب الوعي الكامل على مستوى الأسرة ، بل على مستوى
الدولة كذلك ، فهذه الوسائل التي تحمل إلينا أفكار غيرنا إنما نحن الذي نملكها ونتحكم فيها
وهي أدوات وأجهزة نأخذ فيها ما نريد وندع ما يريد ، فلا يجب أن تتحكم فينا ، بل علينا نحن
أن نتحكم فيها ، ونربي أبناءنا على ذلك ، فلا نرى أو نسمع إلا ما نريده والمعيار في ذلك
هو ميزان عقيدتنا ، وذلك لأن الإسلام ليس منفصلاً عن الحياة ، وذلك لأن الاعتقاد بأن
الدين شيء والحياة شيء آخر يفضي بأجيالنا إلى حياة ليست فيها أية علامات تدل
على احترامهم لشرائع الله أو إذعانهم لمشيئته
وهكذا فقد وجدنا أن الأسرة تواجه كثيراً من التحديات المعاصرة قد تؤدي إلى قصور دورها
التربوي ، وفي نفس الوقت وجدنا أن الأسرة هي أيضاً القادرة على مواجهة تلك التحديات
والتغلب عليها ، حتى تستعيد دورها التربوي الفعال
فهل يستوعب المربون هذه الأهمية للأسرة ؟ أتمنى ذلك !