الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين ، أما بعد : فهذه وقفات مع المحتفلين بميلاد خير البشر صلى الله عليه وآله وسلم ، أسأل الله أن ينفع بها :
الوقفة الأولى
لقد أمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم باتباع الشريعة الربانية ، وعدم اتباع الهوى ، قال تعالى : ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ) ، فالعبادات كلها توقيفيّة ، بمعنى أنه لا مجال للرأي فيها ، بل لا بد أن يكون المشرّع لها هو الله سبحانه وتعالى ، ولذلك أمر الله نبيّه في أكثر من موضع باتباع الوحي : ( إن اتبع إلا ما يوحى إليّ ) ، وقد قرّر العلماء أنّ : العبادات مبنيةٌ على الاتباع لا الابتداع .
الوقفة الثانية
لقد امتنّ الله تعالى على عباده ببعثة الرّسول صلى الله عليه وسلم وليس بميلاده ، قال تعالى : ( لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) (آل عمران:164) .
الوقفة الثالثة
السلف الصالح لم يكونوا يزيدون من الأعمال في يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم على سائر الأيام ، ولو فعلوا لنقل إلينا ! ولا يخفى لأنهم أشدّ الناس حبًّا وتعظيمًا واتباعًا .
قال العلامة / أبي عبد الله محمد الحفار المالكي : ( ألا ترى أنّ يوم الجمعة خير يومٍ طلعت عليه الشمس ، وأفضل ما يفعل في اليوم الفاضل صومه ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة مع عظيم فضله ، فدلّ هذا على أنه لا تحدث عبادة في زمان ولا في مكان إلا إذا شرعت ، وما لم يشرع لا يفعل ، إذ لا يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما أتى به أولها ... والخير كله في اتّباع السلف الصالح ) المعيار المعرب 7 / 99 .
الوقفة الرابعة
انظر إلى فقه الفاروق عمر بن الخطاب حين أرَّخ بهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم رمز انتصار دينه ، ولم يؤرّخ بمولده ووفاته ، أتدري لماذا ؟ تقديماً للحقائق والمعاني على الطقوس والأشكال والمباني !!
الوقفة الخامسة
إن أوّل من أحدث بدعة المولد : الخلفاء الفاطميون بالقرن الرابع للهجرة بالقاهرة ، فقد ابتدعوا ستة موالد : المولد النبوي، ومولد الإمام علي وفاطمة والحسن والحسين ، ومولد الخليفة الحاضر ، وبقيت هذه الموالد على رسومها إلى أن أبطلها الأفضل ابن أمير الجيوش ، ثم أعيدت في خلافة الحاكم بأمر الله سنة 524هـ بعد ما كاد الناس ينسونها .
فعلى هذا لم تعرف الأمة هذا المولد قبل هذه الدولة ، فهل هي أهلٌ للاقتداء بها ؟ والغريب أنّه وصل بالبعض ، تفضيل ليلة المولد النبوي على ليلة القدر !!
الوقفة السادسة
اختلف المؤرخون وأهل السير في الشهر الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقيل : ولد في شهر رمضان ، والجمهور : على أنه ولد في ربيع الأول ، ثم اختلف هؤلاء في تحديد تاريخ يوم مولده على أقوال :
فقيل : اليوم الثاني من ربيع الأول قاله ابن عبد البرّ ، وقيل : اليوم الثامن ، صححه ابن حزم ، وهو اختيار أكثر أهل الحديث ، وقيل : اليوم التاسع ، وهذا ما رجّحه أبو الحسن الندوي ، وزاهد الكوثري ، وقيل : اليوم العاشر ، اختاره الباقر ، وقيل : اليوم الثاني عشر ، نصّ عليه ابن إسحاق ، وقيل : السابع عشر من ربيع الأول ، وقيل : الثامن عشر من ربيع الأول ...
وهذا إن دلّ على شيء فهو يدلّ على عدم حرص الصحابة على نقل تاريخ مولده صلى الله عليه وسلم إلينا ، فلو كان في ذلك اليوم عبادة ، لكانت معلومة مشهورة لا يقع فيها خلاف ، ولنقل إلينا مولده على وجه الدقّة .
قال الشيخ القرضاوي : ( إذا نظرنا إلى هذا الموضوع من الناحية التاريخية : نجد أنّ الصحابة رضوان الله عليهم،لم يحتفلوا بذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا بذكرى إسراءه ومعراجه أو هجرته ، بل الواقع أنهم لم يكونوا يبحثون عن تواريخ هذه الأشياء ! فهم اختلفوا في يوم مولد النبي صلى الله عليه و سلم ، فإن اشتهر أنه الثاني عشر من ربيع الأول ، لكن البعض يقول : لا ، الأصح اليوم التاسع من ربيع الأول وليس يوم الثاني عشر ، وذلك لأنه لا يترتب عليه عبادة أو عمل ، ليس هنالك قيام في تلك الليلة ولا صيام في ذلك اليوم ، فلذلك المعروف أنّ الصحابة والتابعين والقرون الأولى وهي خير قرون هذه الأمة لم تحتفل بهذه الذكريات ! بعد ذلك حدثت بعد عدة قرون بدأت هذه الأشياء .. ) .
ولمراعاة هذا الخلاف ، كان صاحب إربل يحتفل بالمولد ، سنةً في ثامن شهر ربيع الأول ، وسنة ً في ثاني عشرة !!! ( انظر ابن خلكان 1 / 437 ) .
الوقفة السابعة
إنّ التاريخ الذي ولد فيه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، هو بعينه التاريخ الذي توفي فيه ! : ( يوم الاثنين 12 ربيع الأول ) ، فليس الفرح فيه بأولى من الحزن فيه ، نبّه على ذلك غير واحد من أهل العلم ، منهم ابن الحاج المالكي ، والإمام الفاكهاني .
قال ابن الحاج المالكي : ( العجب العجيب : كيف يعملون المولد بالمغاني والفرح والسرور كما تقدّم ، لأجل مولده صلى الله عليه وسلم كما تقدّم في هذا الشهر الكريم ؟ وهو صلى الله عليه وسلم فيه انتقل إلى كرامة ربه عزّ وجل ، وفجعت الأمة وأصيبت بمصابٍ عظيم ، لا يعدل ذلك غيرها من المصائب أبدًا ، فعلى هذا كان يتعيّن البكاء والحزن الكثير ... فانظر في هذا الشهر الكريم ـ والحالة هذه ـ كيف يلعبون فيه ويرقصون ) المدخل 2 / 16 .
الوقفة الثامنة
من الملاحظ أنّ انتشار الاحتفال بالمولد النبوي بين المسلمين ، كان في البلاد التي جاور فيها المسلمون النصارى ، كما في الشام ومصر .. فالنصارى كانوا يحتفلون بعيد ميلاد المسيح في يوم مولده ، وميلاد أفراد أسرته ، فكان ذلك سببًا في سرعة انتشار تلك البدعة بين المسلمين تقليدًا للنصارى .
حتى قال الحافظ السخاوي مؤيدًا الاحتفال بالمولد : ( وإذا كان أهل الصليب اتّخذوا ليلة مولد نبيّهم عيدًا أكبر ، فأهل الإسلام أولى بالتكريم وأجدر ) !! وقد تعقّبه الملا علي القاري : ( قلت : ممّا يردّ عليه أنّا مأمورون بمخالفة أهل الكتاب ) المورد الروي في المولد النبوي / 29 .
الوقفة التاسعة
إنّ محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ، لا تتحقّق بالاحتفال بمولده ، وإنّما تتحقّق بالعمل بسنّته ، وتقديم قوله على كل قول ، وعدم ردّ شيء من أحاديثه ، ولنعلم أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد وسعهم دين الله من غير احتفالٍ بمولده ، إذًا فليسعنا ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
والفرح بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم ، لا يمكن أن يقتصر على يومٍ واحدٍ ، بل بكل لحظة من لحظات حياة المسلم ، بالتزام أوامره واجتناب نواهيه ، والخضوع لكل ما جاء به من عند الله تعالى ، فلا تقف الفرحة أمام يومٍ واحدٍ ، بل نجعل لنا من كل يومٍ جديدٍ ، التزامًا أكثر بالسنة ، ، لنحوّل ضعفنا إلى قوةٍ ، ونرسي في أنفسنا قواعدَ عقيدتنا ، ومبادئ الإسلام العظيم .
الوقفة العاشرة
قال النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبدالله ورسوله ) البخاري .
أكثر تلك الموالد فيها إطراءٌ ومبالغة في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم ، والغريب أنّه حتى المؤيدين للموالد ، قد أقرّوا بوجود الغلو الذي يصل إلى درجة الكفر !! خاصةً عندما تجرّأ البعض على تأليف كتب عن المولد النبوي ، ثم وضع الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ! تأييدًا لذلك يقول عبد الله الغماري ـ أحد كبار الصوفية المعاصرين ـ :
( .. وكتب المولد النبوي ملأى بهذه الموضوعات ، وأصبحت عقيدةً راسخة في أذهان العامة ، وأرجوا أن يوفّقني الله إلى تأليفٍ حول المولد النبوي ، خالٍ من أمرين اثنين : الأحاديث المكذوبة ، والسّجع المتكلّف المرذول ... والمقصود أنّ الغلو في المدح مذمومٌ لقوله تعالى : " لا تغلوا في دينكم " ، وأيضًا فإنّ مادح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمر لم يثبت عنه ، يكون كاذبًا عليه ، فيدخل في وعيد : " من كذب عليّ متعمّدًا فليتبوّأ مقعده من النار " .
وليست الفضائل النبويّة مما يتساهل فيها برواية الضعيف ونحوه ، لتعلقها بصاحب الشريعة ونبي الأمة ، الذي حرّم الكذب عليه وجعله من الكبائر ، حتى قال أبو محمّد الجويني والد إمام الحرمين بكفرِ الكاذب عليه صلى الله عليه وسلم .
وعلى هذا فما يوجد في كتب المولد النبوي وقصة المعراج من مبالغات وغلوٍ لا أساس له من الواقع : يجب أن تُحرق ، لئلا يُحرق أصحابها وقارئوها في نار جهنّم ، نسأل الله السلامة والعافية ) من نقده لبردة البوصيري ص 75.
وقد جرت العادة في الموالد أن تختم بالعبارات البدعية والتوسلات الشركيّة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
الوقفة الحادية عشرة
ما يدور في الموالد من المفاسد ، لا تخفى على مسلم ، من أهمها :
أنّ المحتفلين بالمولد يرمون المخالفين ـ وللأسف ـ بعدم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم !! متناسين بأنّ التعظيم والمحبة تكون بالاتباع لا الابتداع ، وكذلك : ما يجري داخل الموالد من إطفاء الأنوار وهزّ الرؤس وتمايل الأكتاف و .. ناهيك عن الأذكار المكذوبة والقصص الموهومة ، ويقول الشيخ علي محفوظ الأزهري : ( فيها إسراف وتبذير للأموال ، وإضاعة للأوقات فيما لا فائدة منه ولا خير فيه ) الإبداع / 324 ، والقواعد الشرعية تقضي بأنّ المباح ـ وهذا على فرض أنه مباح ـ إذا أدّى إلى محرّم : فإنّه يحرم من باب سدّ الذرائع ، فكيف وهو يحوي على المنكرات !!
الوقفة الثانية عشرة
وقد أجمع المسلمون على بدعية الاحتفال بالمولد النبوي ، لكنهم اختلفوا في حسنه وقبحه ، فذهب البعض منهم إلى أنه بدعة حسنة : كابن حجر والسيوطي والسخاوي .. وغيرهم ، نظرا للمصلحة التي ظنوا حصولها !!
لكن العلماء المحقّقين ، المتقدّمين منهم والمتأخرين ، أفتوا بحرمة الاحتفال بالمولد ، عملاً بالأدلة الشرعية التي تحذّر من البدع في الدين ، والأعياد والاحتفالات من أمور الشريعة ، ووقفوا أمام فتح باب شر متيقّن لخيرٍ موهوم ؟ ثم ما وعاء هذا الخير المزعوم ، عملٌ لم يفعله الرسول ولا صحابته ولا التابعون لهم بإحسان قروناً طويلة !! علمًا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ، لم يفرّق بين بدعة حسنة وأخرى سيئة ، بل قال : ( كل بدعة ضلالة ) !
قال الإمام مالك : ( من ابتدع في الإسلام بدعةً يراها حسنة ، فقد زعم أنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة !! لأن الله يقول : " اليوم أكملت لكم دينكم " ، فما لم يكن يومئذٍ دينًا فلا يكون اليوم دينًا ) الاعتصام للشاطبي .