إن من حكمة الله الربانية أن جعل قلوب عباده المؤمنين تحس وتتذوق وتشعر بثمرات الإيمان، لتندفع نحو مرضاته، والتوكل عليه سبحانه وتعالى. فإن شجرة الإيمان إذا ثبتت وقويت أصولها وتفرعت فروعها، وزهت أغصانها، وأينعت أفنانها عادت على صاحبها وعلى غيره بكل خير عاجل وآجل في الدنيا والآخرة.
وثمار الإيمان وثمراته وفوائده كثيرة قد بينها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم. فمن أعظم هذه الفوائد والثمار:
أولا: الاغتباط بولاية الله الخاصة التي هي أعظم ما تنافس فيه المتنافسون ، وتسابق فيه المتسابقون، وأعظم ما حصل عليه المؤمنون، قال تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [يونس:62] ثم وصفهم بقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [يونس: 63].
فكل مؤمن تقي، فهو لله ولي ولاية خاصة، من ثمراتها ما قاله الله عنه: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور...ِ) [البقرة: من الآية 257] أي: يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات المعاصي إلى نور الطاعة، ومن ظلمات الغفلة إلى نور اليقظة والذكر، وحاصل ذلك: أنه يخرجهم من ظلمات الشرور المتنوعة إلى ما يرفعها من أنوار الخير العاجل والآجل.
وإنما حازوا هذا العطاء الجزيل: بإيمانهم الصحيح، وتحقيقهم هذا الإيمان بالتقوى فإن التقوى من تمام الإيمان.
ثانيا: الفوز برضا الله ودار كرامته ، قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 71-72] فنالوا رضا ربهم ورحمته، والفوز بهذه المساكن الطيبة: بإيمانهم الذي كمّلوا به أنفسهم، وكمّلوا غيرهم بقيامهم بطاعة الله وطاعة رسوله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاستولوا على أجلِّ الوسائل، وأفضل الغايات وذلك فضل الله.
ثالثا: ومن ثمرات الإيمان: أن الله يدفع عن المؤمنين جميع المكاره، وينجّيهم من الشدائد كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا...) [الحج: من الآية 38] أي: يدفع عنهم كل مكروه، يدفع عنهم شر شياطين الأنس وشياطين الجن، ويدفع عنهم الأعداء، ويدفع عنهم المكاره قبل نزولها، ويرفعها أو يخففها بعد نزولها.
ولما ذكر تعالى ما وقع فيه يونس -عليه السلام- وأنه (... فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: من الآية 87] قال: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء: 88]. إذا وقعوا في الشدائد، كما نجّينا يونس قال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوة آخي يونس ما دعا بها مكروب إلا فرّج الله عنه كربته لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين". وقال تعالى: (... وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) [الطلاق: من الآية 4].
فالمؤمن المتقي ييسر الله له أموره وييسره لليسرى، ويجنبه العسرى: ويسهل عليه الصعاب ويجعل له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب. وشواهد هذا كثيرة من الكتاب والسنة.
رابعا: ومنها: أن الإيمان والعمل الصالح -الذي هو فرعه- يثمر الحياة الطيبة في هذه الدار، وفي دار القرار قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 97] وذلك أنه من خصائص الإيمان، أنه يثمر طمأنينة القلب وراحته، وقناعته بما رزق الله، وعدم تعلقه بغيره، وهذه هي الحياة الطيبة. فإن أصل الحياة الطيبة: راحة القلب وطمأنينته، وعدم تشويشه مما يتشوش منه الفاقد للإيمان الصحيح.
خامسا: ومنها: أن جميع الأعمال والأقوال إنما تصح وتكمل بحسب ما يقوم بقلب صاحبها من الإيمان والإخلاص ، ولهذا يذكر الله هذا الشرط الذي هو أساس كل عمل، مثل قوله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ...) [الأنبياء: من الآية 94].
أي لا يجحد سعيه ولا يضيع عمله، بل يُضاعف بحسب قوة إيمانه، وقال: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [الإسراء: 19] والسعي للآخرة: هو العمل بكل ما يقرب إليها، ويدني منها، من الأعمال التي شرعها الله على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فإذا تأسست على الإيمان، وانبنت عليه: كان السعي مشكورًا مقبولاً مضاعفًا، لا يضيع منه مثقال ذرة.
وأما إذا فقد العمل الإيمان، فلو استغرق العامل ليله ونهاره فإنه غير مقبول قال تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) [الفرقان: 23] وذلك: لأنها أسست على غير الإيمان بالله ورسوله -الذي روحه: الإخلاص للمعبود، والمتابعة للرسول- قال تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً) (الكهف: 103-105) فهم لما فقدوا الإيمان، وأحلوا محله الكفر بالله وآياته- حبطت أعمالهم
قال تعالى: (...لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ...) [الزمر: من الآية 65]، (... وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام: من الآية 88].
ولهذا كانت الردة عن الإيمان تحبط جميع الأعمال الصالحة، كما أن الدخول في الإسلام والإيمان يجُبُّ ما قبله من السيئات وإن عظمت. التوبة من الذنوب المنافية للإيمان، والقادحة فيه، والمنقصة له- تجُبُّ ما قبلها.
سادسا: ومن ثمرات الإيمان أن صاحب الإيمان يهديه الله إلى الصراط المستقيم ، ويهديه إلى علم الحق، وإلى العمل به وإلى تلقي المحاب بالشكر، وتلقي المكاره والمصائب بالرضا والصبر قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ...) [يونس: من الآية 9].
وقال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ...) [التغابن: من الآية 11].
ذكر الشوكاني -رحمه الله- في تفسيره (هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم).
ولو لم يكن من ثمرات الإيمان، إلا أنه يسري عن صاحبه في المصائب والمكاره التي تعترض كل أحد في كل وقت لكفى. ومصاحبة الإيمان واليقين أعظم مسل عنها، ومهون لها وذلك: لقوة إيمانه وقوة توكله، ولقوة رجائه بثواب ربه، وطمعه في فضله؛ فحلاوة الأجر تخفف مرارة الصبر قال تعالى: (... إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ...) [النساء: من الآية 104].
سابعا: ومن ثمرات الإيمان ولوازمه وفوائده وخيراته من الأعمال الصالحة ما ذكره الله بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً) [مريم: 96] أي بسبب إيمانهم وأعمال الإيمان، يحبهم الله ويجعل لهم المحبة في قلوب المؤمنين. ومن أحبه الله وأحبه المؤمنون من عباده حصلت له السعادة والفلاح والفوائد الكثيرة من محبة المؤمنين من الثناء والدعاء له حيا وميتا، والاقتداء به وحصول الإمامة في الدين.
وهذه أيضا من أجل ثمرات الإيمان: أن يجعل الله للمؤمنين الذين كمّلوا إيمانهم بالعلم والعمل -لسان صدق- ويجعلهم أئمة يهتدون بأمره كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة: 24) فبالصبر واليقين -اللذين هما رأس الإيمان وكماله- نالوا الإمامة في الدين.
ثامنا: ومنها قوله تعالى: (...يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ...) [المجادلة: من الآية 11].
فهم أعلى الخلق درجة عند الله وعند عباده في الدنيا والآخرة.
وإنما نالوا هذه الرفعة بإيمانهم الصحيح وعملهم ويقينهم، والعلم واليقين من أصول الإيمان.
تاسعا: ومن ثمرات الإيمان: حصول البشارة بكرامة الله والأمن التام من جميع الوجوه كما قال تعالى: (...وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (البقرة: من الآية 223) فأطلقها ليعم الخير العاجل والآجل، وقيّدها في مثل قوله تعالى: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ...) [البقرة: من الآية 25] فلهم البشارة المطلقة والمقيدة، ولهم الأمن المطلق في مثل قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام:82] ولهم الأمن المقيد في مثل قوله تعالى: (...فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأنعام: من الآية 48].
فنفى عنهم الخوف لما يستقبلونه، والحزن مما مضى عليهم، وبذلك يتم لهم الأمن.
فالمؤمن له الأمن التام في الدنيا والآخرة: أمن من سخط الله وعقابه، وأمن من جميع المكاره والشرور. وله البشارة الكاملة بكل خير، كما قال تعالى: (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ...) [يونس: من الآية 64].
ويوضح هذه البشارة قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت: 30-32] وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الحديد: 28] فرتّب على الإيمان حصول الثواب المضاعف، وكمال النور الذي يمشي به العبد في حياته، ويمشي به يوم القيامة (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [الحديد: 12] فالمؤمن من يمشى في الدنيا بنور علمه وإيمانه، وإذا أُطفئت الأنوار يوم القيامة: مشى بنوره على الصراط حتى يجوز به إلى دار الكرامة والنعيم، وكذلك رتب المغفرة على الإيمان، ومن غُفرت سيئاته سلم من العقاب، ونال أعظم الثواب).
عاشرا: ومن ثمرات الإيمان: حصول الفلاح الذي هو: إدراك غاية الغايات، فإنه إدراك كل مطلوب، والسلامة من كل مرهوب، والهدى الذي هو أشرف الوسائل.
كما قال تعالى بعد ذكره المؤمنين بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وما أُنزل على من قبله، والإيمان بالغيب. وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة: اللتين هما من أعظم آثار الإيمان قال تعالى: (أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة: 5] فهذا هو الهدى التام، والفلاح الكامل.
فلا سبيل إلى الهدى والفلاح -اللذين لا صلاح ولا سعادة إلا بهما- إلا بالإيمان التام بكل كتاب أنزله الله، وبكل رسول أرسله الله. فالهدى أجلُّ الوسائل، والفلاح أكمل الغايات
الحادي عشر: ومن ثمرات الإيمان: الانتفاع بالمواعظ والتذكير والآيات.
قال تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (الذاريات: 55) وقال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر: 77] وهذا: لأن الإيمان يحمل صاحبه على التزام الحق واتباعه، علما وعملاً، وكذلك معه الآلة العظيمة والاستعداد لتلقي المواعظ النافعة، والآيات الدالة على الحق، وليس عنده مانع يمنعه من قبول الحق، ولا من العمل به.
أيضا: فالإيمان يوجب سلامة الفطرة، وحسن القصد، ومن كان كذلك: انتفع بالآيات.
ومن لم يكن كذلك: فلا يُستغرب عدم قبوله للحق واتباعه له. ولهذا يذكر الله -في سياق تمنع الكافرين من تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وقبول الحق الذي جاء به- السبب الذي أوجب لهم ذلك وهو: الكفر الذي في قلوبهم. يعني لأن الحق واضح وآياته بينة واضحة والكفر أعظم مانع يمنع من اتباعه، أي فلا تستغربوا هذه الحالة، فإنها لم تزل دأب كل كافر.
الثاني عشر: ومنها أن الإيمان يقطع الشكوك التي تعرض لكثير من الناس فتضر بدينهم، قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا...) [الحجرات: 15] أي: دفع الإيمان الصحيح الذي معهم الريب والشك الموجود، وأزاله بالكلية، وقاوم الشكوك التي تلقيها شياطين الإنس والجن، والنفوس الأمّارة بالسوء. فليس لهذه العلل المهلكة دواء إلا تحقيق الإيمان.
ولهذا ثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الناس يتساءلون حتى يُقال: هذا، خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد ذلك فليقل: آمنت بالله). وفي رواية: فليستعذ بالله ولينته.
وبهذا بيَّن صلى الله عليه وسلم الدواء النافع لهذا الداء المهلك. وهو ثلاثة أشياء:
1- الانتهاء عن الوساوس الشيطانية.
2- والاستعاذة من شرّ من ألقاها وشبّه بها؛ ليضل بها العباد.
3- والاعتصام بعصمة الإيمان الصحيح الذي من اعتصم به كان من الآمنين.
وذلك: لأن الباطل يتضح بطلانه بأمور كثيرة أعظمها: العلم أنه منافٍ للحق، وكل ما نقص الحق فهو باطل (...فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ...) (يونس: من الآية 32).
الثالث عشر: ومنها: أن الإيمان ملجَأ المؤمنين في كل ما يلم بهم: من سرور وحزن وخوف وأمن، وطاعة، ومعصية، وغير ذلك من الأمور التي لا بد لكل أحد منها.
فيلجئون إلى الإيمان عند الخوف فيطمئنون إليه فيزيدهم إيمانا وثباتا، وقوة وشجاعة، ويضمحل الخوف الذي أصابهم كما قال تعالى عن خيار الخلق: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ...)[آل عمران: 173-174]
لقد اضمحل الخوف من قلوب هؤلاء الأخيار، وخلفه قوة الإيمان وحلاوته، وقوة التوكل على الله، والثقة بوعده.
ويلجئون إلى الإيمان عند الطاعة والتوفيق للأعمال الصالحة: فيعترفون بنعمة الله عليهم بها، وأن نعمته عليهم فيها أعظم من نعم العافية والرزق وكذلك يحرصون على تكميلها، وعمل كل سبب لقبولها، وعدم ردها أو نقصها. ويألون الذين تفضل عليهم بالتوفيق لها: أن يتم عليهم نعمته بقبولها، والذي تفضل عليهم بحصول أصلها: أن يتم لهم منها ما انتقصوه منها (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون:61] ويلجئون إلى الإيمان إذا ابتلوا بشيء من المعاصي بالمبادرة إلى التوبة منها، وعمل ما يقدرون عليه من الحسنات – لجبر نقصها. قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) [لأعراف: 201] فالمؤمنون في جميع تقلباتهم وتصرفاتهم ملجؤهم إلى الإيمان ومفزعهم إلى تحقيقه، ودفع ما ينافيه ويضاده، وذلك من فضل الله عليهم ومنه.
وخوفا من الإطالة نقتصر على هذه الثمرات العظيمة التي بينها المولى عز وجل، وبذلك نستيقن أن كتاب الله جاء تبيانا لكل شيء، وعرض قضية الإيمان من جوانبها المتعددة النافعة للناس، وبيَّن وسائل زيادة الإيمان، ورغّبنا فيه بذكر فوائده وثماره بحكمة بالغة تليق بالحكيم العليم جل وعلا.
وبيَّن المولى -عز وجل- في كتابه حقيقة الإيمان بأنه اعتقاد بالجنان، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، ووضعنا على الصراط المستقيم، وسلمت عقول المسلمين وقلوبهم من أمراض التعطيل والتشبيه، والإفراط والتفريط، ووقع أهل البدع في الانحراف عن جادة الصواب، وطريق أهل الاستقامة؛ لأنهم ابتعدوا عن كتاب الله وسنة رسوله، وفهم الصحابة والتابعين بإحسان من علماء وفقهاء ومحدثين.