بقلم الدكتور محمود عبد الله إبراهيم نجا مدرس مساعد بقسم الفارماكولوجيا الاكلينيكيه
كلية طب- جامعة المنصورة - مصر
تعودنا إخوة الإسلام في كل رمضان على سؤال شهير في اغلب بيوت المسلمين التي لا تكاد تخلو من مريض يقول (هل أصوم رمضان لأن في الصيام شفاء من كل داء كما نسمع من بعض الدعاة، أم أفطر لأن في الصيام مشقة قد تزيد من شدة المرض؟). و المشاهد أن أكثر المرضى المسلمين حتى و إن كان مرضهم شديد يحرصون على صيام رمضان حبا في الله حتى و إن عرضهم ذلك إلى المخاطر.
و لذا فان هدفي الرئيسي في هذا المقال بإذن الله أن نحاول معاً أن نتعرف على وسطية الإسلام في كيفية التعامل مع المرضى في شهر الصيام و ذلك من خلال الإجابة على سؤالين في غاية الأهمية:
1. هل هناك إعجاز علمي في الربط بين الصيام و الشفاء من الأمراض؟
2. كيف نصل إلى الصحة البدنية و النفسية من خلال الصيام؟
و مما لا شك فيه أن كل تشريع في الإسلام له من الحكم و الفوائد الكثير مما لا يحصيه العقل و لا يستوعبه العلم و لا يحيط بعلمه إلا الله العليم بأحوال الخلق و بما يصلحهم من أمر كما قال تعالى {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }الملك14، و قال تعالى { أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}الأعراف54، و قوله تعالى {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ }فاطر14.
و لكن الأصل الأصيل في الحكمة من كل عبادة أن تكون التقرب إلى الله كما قال تعالى {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }الأنعام162، و قال تعالى {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي }الزمر14، و قال صلى الله عليه و سلم (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى) البخاري، و لذا وجب على كل مسلم أن تكون غايته في كل عبادة إرضاء الله أولا و أخيراً و ليس تحصيل فائدة دنيوية قد تتحقق أو لا تتحقق.
و قد عرف الإنسان الصيام من قديم الزمان، فاتخذه المتدين وسيلة لإرضاء الرب، كما مارسه الوثني والكافر طريقا لتهذيب النفس وترويض البدن. وصوم رمضان في شريعة الإسلام ركن من أركان الدين، فرضه الله لحكمة سامية تربط قلوب المسلمين بتقوى الله و ليس بالمنافع الدنيوية العاجلة، و لذا قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}البقرة183.
فالصوم في الإسلام ليس رياضة بدنية الهدف منها إنقاص الوزن وتعذيب النفس وقهرها ليسهل انقيادها والسيطرة عليها، و لا رياضة روحية بالمعنى الذي تمارس به بعض الطقوس الهندية بهدف زيادة التركيز أو الترقي أو غيره من أغراض دنيوية، وإنما الصوم عبادة لله من أجّل العبادات، فهو سر بين العبد وربه، والله هو الذي يجزي به فقال (كُل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به) رواه البخاري، و إنما تأتي كافة المنافع الأخرى، تبعا لذلك أو زيادة على ذلك. و أحد هذه المنافع الدنيوية و الحكم الربانية التي بدأت تتكشف للصيام بجلاء في عصرنا الحديث، هو تحصيل الصحة البدنية و النفسية، و بدلا من حمد الله و شكره على هذه النعمة الإضافية للصيام فوق نعمة العبودية، بدأنا نتجادل حول قدرة الصيام على الشفاء من الأمراض، فصار البعض يتحدث عن الإعجاز العلمي في التداوى بالصيام و انه شفاء لكل داء، و كالمعتاد أنكر البعض و غالبهم من الماديين، أن يكون للصيام أي دور في عملية التداوى من الأمراض، و بيت الإفراط و التفريط وقف المريض حائرا لا يدرى لأي الرأيين يميل.
و بين الإفراط و التفريط يقف دين الإسلام شامخا بوسطيته المعهودة ليقدم المنهج الوسط للأمة الوسط في كل أحوالها كما قال تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}البقرة143، و مع اعترافي التام كطبيب مسلم بأن الصيام قد يساعد على الشفاء من بعض الأمراض، إلا أنني لا أستطيع أن أسميه إعجازا علمي لأنها حقيقة معلومة في زمن النبي و قبل زمنه و لم يأتي النبي صلى الله عليه و سلم بنص صريح يدل على دور الصيام في الشفاء، و الأحسن أن نقول أن من بعض حكم الصيام انه يساعد على التداوى من بعض الأمراض شريطة الالتزام بنظم التغذية الإسلامية و أوامر الطبيب المعالج. و هذا هو المنهج الوسطى في التعامل مع الصوم، و هو الأولى بالإتباع من الإفراط و التفريط الذي قد يدفع بأعداء الإسلام إلى الانتقاص من عظمة الإسلام إذا قلنا لهم الصيام شفاء من كل داء أو قلنا لهم لا شفاء في الصيام على الإطلاق.
* لماذا يُعد الحديث عن الإعجاز العلمي في الاستشفاء بصيام رمضان أمر مبالغ فيه بعض الشيء؟
1. لغياب النص الصريح على كون الصيام شفاء
فكيف ندخل بالصيام إلى بوابة الإعجاز العلمي بدون دليل واحد يشير إلى أن في الصيام صحة و شفاء كما في العسل و ما يخرج من بطون النحل، حيث قال تعالى { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }النحل69.
و مع العلم بأن حديث (صوموا تصحوا) ضعيف و بعض رواياته منكرة، فلا يعتد به في قضايا الإعجاز العلمي.
كما أننا إذا بحثنا عن تفسير لقول الله تعالى {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } البقرة184، في كتب أوائل المفسرين نجد أنهم اجمعوا على ذكر خيرية الآخرة فقط لحسن الثواب الذي يحصل عليه الصائم.
2. الفوائد الطبية للصيام لا تتحقق إلا بالهدوء النفسي و إتباع النظم الغذائية الإسلامية العامة المذكورة في القرآن و السنة.
و المفترض فينا كمسلمين أن نطبق هذه الأمور طوال العام لقوله تعالى (كلوا و اشربوا و لا تسرفوا) و لقول النبي صلى الله عليه و سلم (بحسب ابن آدم لقيمات) و لقول النبي صلى الله عليه و سلم (لا تغضب) و (ليس الشديد بالسرعة...) و غيرها الكثير.
فالمسلم إذا اتبع القواعد السابقة صح بدنه طوال العام فلا يحتاج إلى الطبيب، و إن كانت هناك من نتائج طبية من الصيام فهي لا تخرج عن الأدلة العامة السابق ذكرها.
3. الصيام ليس عبادة خاصة بالمسلمين فقط.
بل فعلها السابقون و بنص القرآن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }البقرة183، و بالتالي فالإسلام ليس أول من شرع الصوم و عرف فوائده الطبية حتى نقول بأن في الصوم إعجاز علمي اسلامى. و حتى نقول بان الصوم معجزة إسلامية على المستوى العلمي ينبغي أن نقوم بتجربة علمية نثبت فيها أن نظام الصوم الاسلامى بالإمساك عن الطعام و الشراب و الشهوة من الفجر إلى المغرب لمدة شهر باستخدام التقويم الهجري فيصوم المسلم مرة في الحر و أخرى في البرد و هكذا، فنثبت أن هذا النظام الاسلامى هو الأفضل على الإطلاق بين كل نظم الصوم التي عرفتها البشرية، و هذه مسألة تحتاج إلى بحث مضني، و لا يكتفي فيها أبدا بالاطلاع على نتائج الدراسات الأجنبية التي تتكلم عن الصوم، فبعد الاطلاع على أغلبها وجدت أن هذه الدراسات لا تستخدم النظام الاسلامى للصوم في تجاربهم بل يستخدمون أنظمة متباينة من التجويع لفترات متباينة لا توافق النظام الاسلامى في مواعيد تناول الطعام و مدة الصيام.
4. معلوم أن في الصيام مشقة.
ولذا فرضه الله ككفارة للمسلم في بعض المعاصي كما في قوله تعالى {فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}المائدة95.
فإذا ثبتت مشقة الصيام شرعا عرفنا انه قد يضر ببعض الأمراض و لا ينفع فيها و لذا جاء التيسير من الله تعالى برفع مشقة الصوم عن المريض و المسافر كما في قوله تعالى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}البقرة185.
5. لا يعقل أن يكون في الصيام شفاء من كل داء ويسكت عن ذلك النبي.
فالنبي صلى الله عليه و سلم لم يعلم خيرا قط إلا علمنا إياه، فكيف به لا يخبرنا بأمر الشفاء المترتب على الصيام.
و هو بأبي و أمي صلى الله عليه و سلم الذي اخبرنا بالخير كله في وجبة السحور فقال صلى الله عليه و سلم (تسحروا فإن في السحور بركة) متفق عليه، و قال صلى الله عليه و سلم (عليكم بغداء السحور فإنه هو الغداء المبارك) رواه النسائي و صححه الألباني، و قد فسر علماء الحديث هذه البركة بأنها بركة في الدنيا أو الآخرة ، فالذي يستيقظ لتناول السحور ربما صلى الفجر في المسجد وربما سمع آية قرآنية بعد صلاة الفجر تركت أثرا بليغا في نفسه وربما ذكر الله خاليا ففاضت عيناه بالدموع وربما تلا القرآن فكان ربيع قلبه، فهذه بركة الآخرة .أما بركة الدنيا فتناول طعام السحور يعطي طاقة ووقود للجسم خلال النهار و أعماله الشاقة . ويقول صلى الله عليه وسلم في فضل تأخير السحور (بكروا بالإفطار وأخروا السحور) السلسلة الصحيحة للألبانى، وفي هذا لا شك توازن زمني بين الوجبتين التي يتناولهما الصائم ، فإذا اقترب السحور من الفطر ، طالت فترة الصوم ، واضطرب التوازن المطلوب ، ومن ثم حتى لا يحدث شبع زائد في فترة ، وجوع شديد في فترة أخري.
كما اخبرنا صلى الله عليه و سلم بالخير كله في وجبة الإفطار (من وجد تمراً فليفطر عليه ، و من لا يجد فليفطر على الماء فإنه طَهور) رواه الترمذي و النسائي و ابن ماجة و صححه الألباني. والثابت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه كان يفطر على التمر قبل أن يصلي ، و في إفطاره صلى الله عليه و سلم على الرطب أو التمر ما يظهر نور النبوة و ذلك لما أثبته العلم في السنوات الأخيرة عن أهمية الإفطار على التمر و ذلك لأن الصائم يعتمد على ما يوجد بجسمه من سكر و خاصة المخزون منه في الكبد. و السكر الموجود في طعام السحور يكفي 6 ساعات فقط من السحور و بعد ذلك يبدأ الإمداد من المخزون الموجود بالكبد ، و من هنا فإن الصائم إذا أفطر على التمر أو الرطب والتي تحتوي على سكريات أحادية مثل الفركتوز ، فإنها تصل سريعاً إلى الكبد و الدم الذي يصل بدوره إلى الأعضاء و خاصة المخ فيعطى الجسم الطاقة اللازمة له بعض الإفطار. أما الذي يملأ معدته بالطعام و الشراب فيحتاج لمدة من ساعتين إلى ثلاثة ساعات حتى تمتص أمعاؤه السكر ويستفيد منه كطاقة للجسم.
كما نهانا صلى الله عليه و سلم عن صيام الوصال لما فيه من الضرر البين الذي أثبته العلم الحديث فقال صلى الله عليه و سلم (إياكم والوصال) متفق عليه، فالوصال هو حرمان البدن من المواد الغذائية ليوم أو أكثر، وقد دلت التجارب على أن الجسم يحصل على الطاقة أثناء الصيام من مدخراته السكرية أولاً والتي تكون على شكل جليكوجين مدخر في الكبد والعضلات. فإذا طالت مدة الصيام يلجأ البدن إلى مدخراته الدهنية و البروتينية من أجل الحصول على الطاقة، وهذا يعني تخريب الأنسجة و ظهور اضطرابات غذائية عصبية في الدماغ المتوسط مما يؤثر على الغدد الصماء وعلى السلوك والانفعال النفسي. و من هنا نرى أهمية كون الصيام الإسلامي مؤقتاً من الفجر إلى الغروب دون تحريم لنوع ما من الأغذية مع طلب الاعتدال وعدم الإسراف في الطعام في فترة الإفطار.
كما ربط صلى الله عليه و سلم بين الصوم و أثره في الحد من الشهوة الجنسية، فقال (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) متفق عليه، و قد اكتشف العلماء حديثا قدرة الصيام على تقليل الشهوة من خلال الانشغال النفسي بالتفكير في الطاعة بالإضافة إلى تأثير الصيام على الهرمونات الجنسية.
و صدق رسول الله العظيم وصدق كلامه الكريم الذي لا ينطق عن الهوى، فكل يوم يثبت العلم المزيد والمزيد من الحقائق العلمية التي حدثنا عنها رسولنا الكريم منذ مئات السنين والتي تثبت أن رسولنا حق ورسالته حق وكتابه حق وكلامه حق، { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } 3-4 النجم.
فهل بعد كل هذا الإعجاز العلمي السابق ذكره في السحور و الإفطار و النهى عن الوصال و الحد من الشهوة الجنسية بالصيام، نتهم النبي صلى الله عليه و سلم بأنه نسى أن يعلمنا أن للصيام فوائد صحية.