مختصر سيرة البطل خالد بن الوليد رضي الله عنه
عباد الله ، إن لهذه الأمة سلفًا ، هم أبر الناس قلوبًا ، وأحسنهم إيمانًا ، وأقلّهم تكلفًا ، سيرة كل عظيم منهم عظة وعبرة ، وفي اقتفاء أثر أحدهم هداية ، وفي الحياد عن طريقهم غواية .
وإننا اليوم مع واحدٍ من هؤلاء العظماء ، إنه رجل عاش الجاهلية والإسلام ، رجلٌ غليظٌ شديد ولكن على الباطل ، ورقيق حليم رحيم بالمؤمنين ، نتحدث اليوم عن عَلَمٍ من أعلام التاريخ ومصباحٍ من مصابيح الدجى ..
حديثنا عن أحد الأخيار البررة ، مع " بطل المواجهة " ، مع بطل من الأبطال ، بطلٌ في زهده وفي غناه ، بطلٌ في شجاعته وفي إقدامه ، بطل في سِلمه وحربه ، عاش بطلاً ، ومات بطلاً ..
انه أبو سليمان خالد بن الوليد بن المغيرة ، ما إن أسلم إلى أن مات لم يقر له قرار .. ولم يخلد إلى الراحة أبدا ، فإليكم طرفا من سيرته وشيئا من حياته :
أسلم خالد في شهر صفر 8 هـ أي قبل فتح مكة بستة أشهر فقط ، وقبل غزوة مؤتة بنحو شهرين .. و كان سبب إسلامه : أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لأخيه للوليد بن الوليد ، وهو في عمرة القضاء : " لو جاء خالد لقدّمناه ، ومن مثله يجهل الإسلام " ، فكتب " الوليد " إلى " خالد " يرغِّبه في الإسلام ، ويخبره بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ، فكان ذلك سبب إسلامه وهجرته .
وقد سُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام خالد ، وقال له حينما أقبل عليه : " الحمد لله الذي هداك ، قد كنت أرى لك عقلاً رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير " .. وفرح المسلمون بانضمام خالد إليهم ، فقد أعزه الله بالإسلام كما أعز الإسلام به ، وتحول عداء خالد للإسلام والمسلمين إلى حب وتراحم ، وانقلبت موالاته للكافرين إلى عداء سافر ، وكراهية متأججة ، وجولات متلاحقة من الصراع والقتال .
وكانت أولى حلقات الصراع بين خالد والمشركين - بعد التحول العظيم الذي طرأ على حياة خالد وفكره وعقيدته - في ( جمادى الأولى 8هـ ) حينما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سريَّة الأمراء إلى " مؤتة " للقصاص من قتلة " الحارث بن عمير " رسوله إلى صاحب بصرى .
وجعل النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الجيش : " زيد بن حارثة " ومن بعده " جعفر بن أبي طالب " ، ثم " عبد الله بن رواحة " ، فلما التقى المسلمون بجموع الروم ، استشهد القادة الثلاثة الذين عينهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصبح المسلمون بلا قائد ، وكاد عقدهم ينفرط وهم في أوج المعركة ، وأصبح موقفهم حرجًا ، فاختاروا " خالدًا " قائدًا عليهم .
واستطاع " خالد " بحنكته ومهارته أن يعيد الثقة إلى نفوس المسلمين بعد أن أعاد تنظيم صفوفهم، وقد أبلى " خالد " - في تلك المعركة - بلاء حسنًا ، فقد اندفع إلى صفوف العدو يعمل فيهم سيفه قتلاً وجرحًا حتى تكسرت في يده تسعة أسياف .
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه باستشهاد الأمراء الثلاثة ، وأخبرهم أن " خالدًا " أخذ اللواء من بعدهم ، وقال عنه : " اللهم إنه سيف من سيوفك ، فأنت تنصره ". فسمي خالد " سيف الله " منذ ذلك اليوم .
وحينما خرج النبي صلى الله عليه وسلم في نحو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار ؛ لفتح " مكة " ، جعله النبي صلى الله عليه وسلم على أحد جيوش المسلمين الأربعة ، وأمره بالدخول من " الليط " في أسفل مكة ..
فكان خالد هو أول من دخل من أمراء النبي صلى الله عليه وسلم ، بعد أن اشتبك مع المشركين الذين تصدوا له وحاولوا منعه من دخول البيت الحرام ، فقتل منهم ثلاثة عشر مشركًا ، واستشهد ثلاثة من المسلمين ، ودخل المسلمون مكة - بعد ذلك - دون قتال .
وبعد فتح مكة أرسل النبي صلى الله عليه وسلم خالدًا في ثلاثين فارسًا من المسلمين إلى " بطن نخلة " لهدم " العزى " أكبر أصنام " قريش" وأعظمها لديها .. وفي " غزوة حنين " كان " خالد " على مقدمة خيل " بني سليم " في نحو مائة فارس ، خرجوا لقتال قبيلة " هوازن " في ( شوال 8هـ ) ..
وقد أبلى فيها " خالد " بلاءً حسنًا ، وقاتل بشجاعة ، وثبت في المعركة بعد أن فرَّ من كان معه من " بني سليم " ، وظل يقاتل ببسالة وبطولة حتى أثخنته الجراح البليغة ، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بما أصابه سأل عن رحله ليعوده .
ولكن هذه الجراح البليغة لم تمنع خالدًا أن يكون على رأس جيش المسلمين حينما خرج إلى " الطائف " لحرب " ثقيف " و " هوازن " .. وفي (رجب 9هـ أرسل النبي (صلى الله عليه وسلم) "خالدًا" في أربعمائة وعشرين فارسًا إلى "أكيدر بن عبد الملك" صاحب "دومة الجندل" ..
فاستطاع " خالد " أسر " أكيدر "، وغنم المسلمون مغانم كثيرة، وساقه إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فصالحه على فتح "دومة الجندل"، وأن يدفع الجزية للمسلمين، وكتب له النبي (صلى الله عليه وسلم) كتابًا بذلك ..
وفي ( جمادى الأولى 10هـ ) بعث النبي صلى الله عليه وسلم " خالدًا " إلى " بني الحارث بن كعب " بنجران في نحو أربعمائة من المسلمين ، ليخيرهم بين الإسلام أو القتال ، فأسلم كثير منهم ، وأقام " خالد " فيهم ستة أشهر يعلمهم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه ، ثم أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بإسلامهم ، فكتب إليه النبي يستقدمه مع وفد منهم .
وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم شارك " خالد " في قتال المرتدين في عهد " أبي بكر الصديق " - رضي الله عنه - فقد ظن بعض المنافقين وضعاف الإيمان أن الفرصة قد أصبحت سانحة لهم - بعد وفاة النبي - للانقضاض على هذا الدين ، فمنهم من ادعى النبوية ، ومنهم من تمرد على الإسلام ومنع الزكاة ، ومنهم من ارتد عن الإسلام .
وقد وقع اضطراب كبير، واشتعلت الفتنة التي أحمى أوارها وزكّى نيرانها كثير من أعداء الإسلام .. وقد واجه الخليفة الأول تلك الفتنة بشجاعة وحزم ، وشارك خالد بن الوليد بنصيب وافر في التصدي لهذه الفتنة والقضاء عليها ..
حينما وجهه أبو بكر لقتال " طليحة بن خويلد الأسدي " وكان قد تنبأ في حياة النبي صلى الله عليه وسلم حينما علم بمرضه بعد حجة الوداع ، ولكن خطره تفاقم وازدادت فتنته بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم والتفاف كثير من القبائل حوله ..
واستطاع خالد أن يلحق بطليحة وجيشه هزيمة منكرة فر " طليحة " على إثرها إلى " الشام " ، ثم أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه ، وكان له دور بارز في حروب الفرس ، وقد استشهد في عهد عمر بن الخطاب .. وبعد فرار طليحة راح خالد يتتبع فلول المرتدين ، فأعمل فيهم سيفه حتى عاد كثير منهم إلى الإسلام .
وخرج خالد - بعد ذلك - لقتال مسيلمة الكذاب الذي كان من أشد أولئك المتنبئين خطرًا، ومن أكثرهم أعوانًا وجندًا، ودارت معركة عنيفة بين الجانبين، انتهت بهزيمة "بني حنيفة" ومقتل "مسيلمة"..
وقد استشهد في تلك الحرب عدد كبير من المسلمين بلغ أكثر من ثلاثمائة وستين من المهاجرين والأنصار ، وكان أكثرهم من السابقين إلى الإسلام ، وحفَظَة القرآن ، وهو الأمر الذي دعا أبا بكر إلى التفكير في جمع القرآن الكريم ؛ خوفًا عليه من الضياع بعد موت هذا العدد الكبير من الحفاظ.
وبعد أن قضى أبو بكر على فتنة الردة التي كادت تمزق الأمة وتقضي على الإسلام ، توجه الصديق ببصره إلى العراق يريد تأمين حدود الدولة الإسلامية ، وكسر شوكة الفرس المتربصين بالإسلام .
وكان خالد في طليعة القواد الذين أرسلهم أبو بكر لتلك المهمة ، واستطاع خالد أن يحقق عددًا من الانتصارات على الفرس ، واستمر خالد في تقدمه وفتوحاته حتى فتح جانبًا كبيرًا من العراق ..
ثم اتجه إلى " الأنبار" ليفتحها ، ولكن أهلها تحصنوا بها ، وكان حولها خندق عظيم يصعب اجتيازه ، ولكن خالدًا لم تعجزه الحيلة ، فأمر جنوده برمي الجنود المتحصنين بالسهام في عيونهم ، حتى أصابوا نحو ألف عين منهم ..
ثم عمد إلى الإبل الضعاف والهزيلة ، فنحرها وألقى بها في أضيق جانب من الخندق ، حتى صنع جسرًا استطاع العبور عليه هو وفرسان المسلمين تحت وابل من السهام أطلقه رماته لحمايتهم من الأعداء المتربصين بهم من فوق أسوار الحصن العالية المنيعة .. فلما رأى قائد الفرس ما صنع خالد وجنوده ، طلب الصلح ، وأصبحت الأنبار في قبضة المسلمين .
واستخلف خالد " الزبرقان بن بدر" على الأنبار واتجه إلى "عين التمر" التي اجتمع بها عدد كبير من الفرس ، تؤازرهم بعض قبائل العرب ، فلما بلغهم مقدم " خالد " هربوا ، والتجأ من بقي منهم إلى الحصن ، وحاصر خالد الحصن حتى استسلم من فيه ، فاستخلف " عويم بن الكاهل الأسلمي" على عين التمر ، وخرج في جيشه إلى دومة الجندل ففتحهما .
ثم رأى أبو بكر أن يتجه بفتوحاته إلى الشام ، فكان خالد قائده الذي يرمي به الأعداء في أي موضع ، حتى قال عنه : " والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد " ، ولم يخيب خالد ظن أبي بكر فيه ..
فقد استطاع أن يصل إلى الشام بسرعة بعد أن سلك طريقًا مختصرًا ، مجتازًا المفاوز المهلكة غير المطروقة ، متخذًا " رافع بن عمير الطائي " دليلاً له ، ليكون في نجدة أمراء أبي بكر في الشام " أبي عبيدة عامر الجراح " ، و " شرحبيل بن حسنة " و " عمرو بن العاص " ، فيفاجئ الروم قبل أن يستعدوا له ..
وما إن وصل خالد إلى الشام حتى عمد إلى تجميع جيوش المسلمين تحت راية واحدة ، ليتمكنوا من مواجهة عدوهم والتصدي له .. وأعاد خالد تنظيم الجيش ، فقسمه إلى كراديس ، ليكثروا في عين عدوهم فيهابهم ، وجعل كل واحد من قادة المسلمين على رأس عدد من الكراديس ، فجعل أبا عبيدة في القلب على ( 18 ) كردسا ، ومعه عكرمة بن أبي جهل والقعقاع بن عمرو ، وجعل عمرو بن العاص في الميمنة على 10 كراديس ومعه شرحبيل بن حسنة ، وجعل يزيد بن أبي سفيان في الميسرة على 10 كراديس .
والتقى المسلمون والروم في وادي اليرموك وحمل المسلمون على الروم حملة شديدة ، أبلوا فيها بلاء حسنا حتى كتب لهم النصر في النهاية .. وقد استشهد من المسلمين في هذه الموقعة نحو ثلاثة آلاف ، فيهم كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وتجلت حكمة خالد وقيادته الواعية حينما جاءه رسول برسالة من عمر بن الخطاب تحمل نبأ وفاة أبي بكر الصديق وتخبره بعزله عن إمارة الجيش وتولية أبي عبيدة بدلا منه ، وكانت المعركة لا تزال على أشدها بين المسلمين والروم ، فكتم خالد النبأ حتى تم النصر للمسلمين ، فسلم الرسالة لأبي عبيدة ونزل له عن قيادة الجيش .
ولم ينته دور خالد في الفتوحات الإسلامية بعزل عمر له وتولية أبي عبيدة أميرا للجيش ، وإنما ظل خالد يقاتل في صفوف المسلمين ، فارسا من فرسان الحرب وبطلا من أبطال المعارك الأفذاذ المعدودين .
وكان له دور بارز في فتح دمشق وحمص وقنسرين ، ولم يفت في عضده أن يكون واحدا من جنود المسلمين ، ولم يوهن في عزمه أن يصير جنديا بعد أن كان قائدا وأميرا؛ فقد كانت غايته الكبرى الجهاد في سبيل الله ، ينشده من أي موقع وفي أي مكان .. ولكن لكل اجل كتاب وحضرت وفاته بالطاعون الذي أصاب حمص .
وحينما حضرته الوفاة ، انسابت الدموع من عينيه حارة حزينة ضارعة ، ولم تكن دموعه رهبة من الموت ، فلطالما واجه الموت بحد سيفه في المعارك ، يحمل روحه على سن رمحه ..
وإنما كان حزنه وبكاؤه لشوقه إلى الشهادة ، فقد عزّ عليه - وهو الذي طالما ارتاد ساحات الوغى فترتجف منه قلوب أعدائه وتتزلزل الأرض من تحت أقدامهم - أن يموت على فراشه ..
وقد جاءت كلماته الأخيرة تعبر عن ذلك الحزن والأسى في تأثر شديد : " لقد حضرت كذا وكذا زحفا وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف ، أو رمية بسهم ، أو طعنة برمح ، وها أنا ذا أموت على فراشي حتف أنفي ، كما يموت البعير ، فلا نامت أعين الجبناء " وتوفي خالد رضي الله عنه بحمص سنة 18 هـ
وحينا سمع عمر رضي الله عنه بوفاته قال : " دع نساء بني مخزوم يبكين على أبي سليمان ، فعلى مثل أبي سليمان تبكي البواكي ".