أخرج البخاري عن أبي واقد الليثي ـ رضي الله عنه ـ (أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بينما هو جالس في المسجد والناس معه، إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وذهب واحد، قال فوقفا على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، فأما الثالث فأدبر ذاهباً فلما فرغ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ألا أخبركم عن النفر الثلاثة أما أحدهم فأوى إلى الله فأواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه).
في هذا الحديث يقص علينا أبو واقد الليثي ـ رضي الله عنه ـ هذه الواقعة التي حصلت له ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهي تمثل إحدى نماذج التربية بالحدث، والتربية بالحدث هو أن يستثمر المربي الأحداث التي من حوله لتوجيه من يربيهم إلى أنواع من الحكم والدروس، والتربية بالحدث تشبه التربية بالقصة إلا أنها تزيد عليها قوة وتأثيراً، وفعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع أصحابه هو من باب التربية بالحدث، وأما ما فعل أبو واقد ـ رضي الله عنه ـ معنا فيما قصه علينا فهو من باب التربية بالقصة. في هذه الحادثة كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جالساً مع أصحابه في المسجد كما هي عادته صلى الله عليه وسلم في وعظ أصحابه وتعليمهم، وبينما هو كذلك إذ أقبل ثلاثة نفر، وشاء الله عز وجل أن يتفاوت إقبالهم على الله عز وجل، فأقبل اثنان من حيث الجملة، وأعرض الثالث وسمي المعرض عنه معرضاً، وبيَّن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الله أعرض عنه من باب أن الجزاء من جنس العمل، وفيه التحذير الشديد من إعراض المسلم عن الطاعة لا سيما التي تهيأت أسبابها وفي ذلك يقول تعالى (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور: 63).
وأما الاثنان الذين أقبلا فتفاوتت مراتب إقبالهم، فبينما كان أحدهما ليس حريصاً على طلب العلم أو استحيا أن يطلب منهم أن يوسعوا له فجلس خلفهم وإنما استحيا أن يجد تلك المأدبة النبوية ولا يجلس إليها، والحياء خير كله، والجزاء أيضاً من جنس العمل ولذلك استحيا الله منه، يعني ـ والله أعلم ـ أنه ألحقه بأصحابه في الأجر في الجملة أي لم يحرمه الخير. ومصداق ذلك قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) (متفق عليه)، والحياء من الصفات الثابتة لله عز وجل في هذا الحديث وفي غيره، كما في الحديث (إن الله حيي كريم، يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين) (رواه الترمذي وأبو داود وصححه الألباني).
أي خاليتين، وحياء الله عز وجل كما هي عقيدة أهل السنة حياء على ما يليق به من الجلال والإكرام لا يشبه حياء المخلوقين كما أن ذاته لا تشبه ذواتهم (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: 11).
وثمرة هذا الحياء كما مر هو المبالغة في الإثابة على الطاعة وإن لم تكن تامة، وإجابة الدعاء وإن كان من غير مستجمع لشروط الإجابة. وأما الأول فبلغ من حرصه على العلم، أنه أخذ بأحد أهم أسباب الإتقان في الطب ـ وهو الدنو من المعلم ـ، ولم يكن دنو هذا الرجل من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن طريق غصب حق إخوانه الذين سبقوا إلى مجلس العلم كما يفعل هذا بعض طلبة العلم، بل إنه بحث عن فرجة قريبة من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فأوى إليها وهو في حقيقة أمره يأوي إلى ربه ويقبل على ربه ويحصل على الخير بتمامه ولا يريد أن يدع من أسبابه شيئاً، فأواه الله إليه فإن من تقرب إلى الله شبراً تقرب الله منه ذراعاً، ومن تقرب ذراعاً تقرب الله إليه باعاً، ومن أتاه يمشي أتاه رب العزة هرولة.
ثم بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حال هؤلاء النفر من باب التربية بالحدث كما أسلفنا، لاسيما وأن أصول الخلق أجمعين يعرض لهم من أسباب الخير ما لا تخرج عن حال أولئك الثلاثة، فالخلق ما بين معرض ـ وقد علمت جزاءه ـ يجزيه الله إعراضاً بإعراض، وما بين مقبل مع ضعف في العزيمة ونقص في الإرادة فله من الخير على قدر ما في قلبه من إرادة الخير وإن لم يكن إلا الحياء من الله فهو خير بإذن الله، وما بين مقبل بكليته على ربه قد صارت الآخرة هي همه والطاعة هي مقصوده فحدّث ولا حرج عما يجازيه عليه ربه من أنواع الإحسان والإنعام، وهل وجدت أبلغ من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (فأواه الله).
وإذا نظرت في أحوال الناس فيما يعرض لهم من شأن الإيمان بالله ورسله، ثم من شأن تعلم دين الله والعمل به، ثم من شأن الدعوة إلى الله والسعي إلى نصرة دينه، لوجدت أنهم لا يخرجون عن هذه الأحوال الثلاثة، فيا عبد الله كن أحد الرجلين ولا تكن الثالث، وإذ رزقك الله همة عالية فلا ترضى بما دون الفردوس الأعلى جعلنا الله وإياكم من أهلها