الحلقة الثانية
مظاهر سلامة الصدر
لسلامة الصدر مظاهر كثيرة عملية يضمن بها الإنسان أحلى حياة في الوجود كله ، وبالممارسة تدوم الممارسة , ومن أراد المواصلة فعليه بالتواصل ، ولذلك من أحكم ما قيل في تحقيق سلامة الصدر : (
من ثواب سلامة الصدر أن ترزق سلامة الصدر بعده ) ، وبهذا يحقق الإنسان الصالح تمكنه من سلامة الصدر .
وهذه جولة مع مظاهره العملية : حسن القصد : فالقلوب تتجة إلى غاية واحدة ، ومقصود واحد ، فلا يرى مشقة في التحقيق أو طولاً في الطريق ، وكما قيل (
والمحب لا يرى طول الطريق لأن المقصود بعينه ) وقد ازاد ذو البجادين اللحاق بالنبى صلى الله عليه وسلم بعد أن جرده قومه مما يملك حتى نزعوا ملابسه ، وهو في الطريق يتجه مع المجاهدين على أمل لقاء النبى صلى الله عليه وسلم فيموت شهيداً ، وقد نزل النبى صلى الله عليه وسلم يمهد لحده , وهو يقول :
" اللهم إني أمسيت عنه راضياً فارض عنه " ويقول عندها ابن مسعود : يا ليتنى كنت صاحب القبر .
التنافس في الخيرات : ومن مظاهر سلامة الصدر التنافس في الخيرات والسباق في الطاعات ، وليس الصراع على زائل ، أو الغيرة على حقير ، فكما قيل : (
من نافسك في الآخرة فنافسه ومن نافسك في الدنيا فألقها في وجهه ) وفي وسط الغبار الكل في سباق ، ولكن العبرة فيمن سبق :
سوف ترى إذا انجلى الغبار أفرسٌ تحتك أم حمار
حبس القلب واللسان والحركة : ومن مظاهر سلامة الصدر أن تحبس قلبك ولسانك وجوارحك كلما هفت نحو أخيك هفوة ، فلا تفارق هذا الحبس الحميد حتى تلقى ربك , فيخلصك من الحبس ، يقول ابن القيم : (
فالخارج من الدنيا إما متخلص من الحبس وإما ذاهبٌ إلى الحبس ) .
المكاشفة وعدم الشكوى : وبذلك ينقشع الغمام وهو ضئيل ، ولا يتسع الجرح وهو صغير ، والمكاشفة هى أقصر الطرق إلى الحلول ، وعدم الشكوى هى التضييق على الثغرات والمتربصين ، فإن استعانة المخلوق بالمخلوق مثل استعانة المسجون بالمسجون ، وقيل لأحدهم لما شكى : أتشكو الرحيم إلى الذى لا يرحم ؟! وحكمة هارون الرشيد في ذلك : (
داوِ جرحك لا يتسع ) .
التغافل والتغاضي : تسع أعشار المعاشرة في التغاضي ، وسلامة الصدر في التغافل ، وهذا الرجل الصالح الذي سمع ما يكره فقال : (
من لك بأخيك كله ) ، وعندما سئل أحدهم عن سر نجاحه في المعاشرة سنوات عديدة قال : (
كنت مع الناس على نفسي ) .
وليس الأمر يحتاج الى أحكام سابقة على الناس قبل معاشرتهم ، وإنما المعاشرة كما يقولون : آنية لحظتها ، (
وقيمة كل امرىء ما يحسن ) كما قال على بن أبى طالب ، فتذكر ما يحسن وانس منه ما تكره .
الناس ليسوا على وتيرة واحدة :
وليسوا على مقياس واحد ، والقلوب تتقلب ، ولها في الناس شئون ، يقول أبو العتاهية
وللقلب على القلب دليل حين تلقاه
وللناس من الناس مقاييس وأشباه
الرد على الإساءة بالخير : من مظاهر سلامة الصدر ألا يجد إساءة في نفسه لأحد ، فإن شتمه أحد أو سابه أو ذكره بما يكره ، لا يرد على الإساءة بالإساءة لخلو صدره من ذلك ، لقد شتم رجل الشعبى فقال : إن كنت صادقاً غفر الله لك ، وإن كنت كاذباً غفر الله لى .
ويقول الأحنف : من لم يصبر على كلمة سمع كلمات , وسلامة الصدر تختصر الطرق ، وتضيق الدوائر ، وتزيل الشرور ، بل إنه ينظر إلى جانب آخر قد لا يراه أحد :
لئن ساءني أن نلتني بإساءة لقد سرني أنى خطرت ببالك
وبذلك تسد الطرق أمام الأقاويل التى تتسع بقائليها وناقليها هداهم الله ، وعندها يعرف اللبيب الحاذق ، يقول الحارث بن عباد : (
تناقل الأقاويل يعرف به اللب ) .
وقد عاتب مصعب بن الزبير الأحنف في شيء فأنكره , فقال : أخبرني الثقة , قال : كلا إن الثقة لا يبلغ .
دع الضمائر : ومن مظاهر سلامة الصدر عدم التفتيش عما في ضمائر الناس أو الخوص في نياتهم ، أو الدخول في دوافعهم أو السياحة في نياتهم ، وإنما التعامل مع ظاهرهم :
لا أسأل الناس عما في ضمائرهم ما في ضميري لهم من ذاك يكفيني
دع الضمائر ويكفيك ما في ضميرك ، تتعهده بالصلاح وتعاهده على الإصلاح ، وإلا خسرت كل صديق :
ومن يتتبع جاهداً كل عثرة يجدها ولا يبقي له الدهر صديق
وأن تعاملهم بما في ضميرك من حب خالص تجد كل سعادة لك وهناء ، يقول ضمير أحدهم : أرى ببقائك بقاء سرورى ، وبدوام النعمة عندك دوامها عندي ، وما تأكله أشعر بحلاوته في حلقي .
الأحباب أحرار : لا تفزع من العنوان ! فالحب ليس بالإكراه ، ولا إكره في الحب ، ومن أراد أن يجبر الناس على حبه فشل , وإن تعددت وسائله ، إن كان لا يحبهم فكيف يرزق حبهم ؟! فالحب رزق من الذي يسمع الضمائر ويري الحركات .
الله يعلم أنا لا نحبكم ولا نلومكم إن لم تحبونا
فمن سلامة الصدر ألا نعتب على من لا يحبنا , إن كانت قلوبنا تكرههم ، ولهذا قيل لأحد الباحثين عن حب الناس وهو عاجز عن ذلك : يا هذا ضع يدك على صدرك وانظر كيف تجدنى عندك ، لأجدك عندى .
لقد مر عمر بن الخطاب بأبى مريم , قاتل زيد بن الخطاب , فقال له عمر : والله لا يحبك قلبى أبداً ! فقال : يا أمير المؤمنين فهل يمنعني لذلك حقاً؟
قال : لا , قال : فحسبى .
فالأحباب أحرار بلا لوم أو إجبار ، وليس معنى ذلك أن تضيع الحقوق بين الناس .
المبادرة في قضاء الحوائج :
ومن مظاهر سلامة الصدر ، المبادرة لقضاء جوائج الناس ، وخدمتهم دون مصلحة أو سبب ، لأن حبهم لله تعالى وليس لمصلحة أو منفعة ، فيميل حيث العاطفة ، ويتجه بالخدمة حيث يتجه الحب ، لأن عينه على الخدمة ، منطلقا من نبع صافي :
من ظن خيراً جاد مبتدئا والبخل من سوء ظن المرء بالله
وما أحسن ما وصف به أبو عقيل أحد كرماء عصره , فقال : (
حاجته إلى قضاء الحاجة أشد من حاجة صاحب الحاجة ) .
الحلقة الثالثة
ثمار سلامة الصدور
وكما يتجول الإنسان في هذه البساتين الفيحاء ، لينعم بعطرها ، ويسعد بجمالها ، فإنه يقطف منها ثمارً يانعة تكون له غذاء وزاداً ، تقويه وتدفعه إلى المزيد ، ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) ، وهى ثمار تعود بالفائدة على الفرد والمجتمع والناس جميعا.
وهذا فيض من ثمار لا تعد ولا تحصي !!
ضمان السير في الطريق : طريق الايمان وطريق معرفة الله وطريق الدعوة وطريق اتقوى ، كل ذلك هو الصراط المستقيم :[
وأن هذا صراطي مستقيما , فاتبعوه ولا تتبعوا السبل , فتفرق بكم عن سبيله ]الأنعام / 153 .
فمن أراد السيرفي سبيل الله ، ومن أراد أن يكون من المفلحين ، فليس له إلا سلامة الصدر , فهى بذرة هذه الثمرة : (
أن يضمن السير في طريق الله ) , قيل للحسن : سبقنا القوم ؟!! قال : إن كنت على طريقهم فما أسرع اللحاق بهم .
المهم أن تضمن السير على الطريق ، ولا تنزعج في أى مرحلة كنت فكما قيل : كن في آواخر الركب ونم إن نمت على الطريق .
حينما سئل ذكوان عن الحسن بن على أمام معاوية في غيبته , قال :
فيم الكلام لسابقٍ في غاية والناس بين مقصِّر ومبلِّدِ
المعيار هو الدين : وليس لهوى أو مطمع أو مصلحة ، فالميزان هو الدين ، والمعيار هو الإسلام ، في فهمه والعمل به والتمسك بمبادئه ، فلا يظلم ولا يجور ولا يتعدى الحقوق , لخلو صدره أصلاً من هذه الآفات ، حتى وإن تعرضت له فسرعان ما ينجلى سوادها ، فيعود إلى سابق سلامته , يقول ابن مكرم : السيف العتيق إذا أصابه الصدأ استغنى بالقليل من الجلاء ، حتى تعود جدته للين طبيعته , وكرم جوهره .
وقد ترجم هذا المعنى علي بن أبي طالب , حينما قال لأبى بكر : (
رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاك لدنيانا ) .
تقارب القلوب : وهو شعور المحبين بالقرب ، وأن تقاربهم ليس بلا أساس ، بل هو تقارب قلوب ، قيل : العاطفة والتعبيرات والكلمات والأشكال والصور ، وهذه من تعبيرات ابن عباس حينما قال : القرابة تقطع والمعروف يكفر , وما رأيت كتقارب القلوب .
ولذلك قالوا : خير الإخوان من أقبل عليك إذا أدبر الزمان عنك ، وما ذلك إلا لتقارب القلوب وسلامة الصدور .
الوضوح والصراحة : وقد يفسرها البعض بأنها اتهام أو تفاضح أو نشر للسوءات ، وكل ذلك بعيد عن سلامة الصدر فهى في الحقيقة وضوح يقطع الألسنة , ووضوح يقطع الخطايا ، وفي وقفة النبى صلى الله عليه وسلم مع صفية باليل وقوله للرجلين : إنها صفية !! بُعد أخر لم تكن القولة إتهام للرجلين , بقدرما كانت قطع لخطوات الشيطان .
الحركة الصافية الطاهرة الواعية :
ومن أجمل الثمار حركة سليم الصدر مع الناس ، حيث لا ريبة أو شك ، ولا مهادنة أو مواربة ، ولا خديعة أو غش ، ولا لف أو دوران ، وإنما صفاءٌ وطهرٌ ووعي .
ونقصد أيضاً بذلك شعور الآخرين بطهرك وصفائك ووعيك , بعد تحققك بها ، فعلى مستوى (
سليم الصدر ) فهو كالنحلة إن اكلت أكلت طيباً , وإن أطعمت أطعمت طيبا , وإن سقطت على شيء لم تكسره ولم تخدشه .
وعلى مستوى الناس فهو يريد نجاتهم ومصلحتهم مع نجاحه ، وليس كما يقول البعض : الأمان لى وعلى الناس الخراب ، خرج النخعي مع الأعمش , فقال : إن الناس إذا رأونا , قالوا : أعور مع أعمش
قال : وما عليك أن يأثموا ونؤجر
قال : وما عليك أن يسلموا ونسلم
وهي حركة واعية لانطلاقهما من الفضل والعقل معا ، يقول المغيرة بن شعبة :
ما رأيت أحداً أحزم من عمر , والله كان له : فضل يمنعه أن يَخدَع , وعقل يمنعه أن يُخدع . ويقول عمر في نفس المعنى : لست بخَبّ , والخَبُّ لا يخدعني .
الخلق السديد : بسلامة الصدر يُرزق الإنسان الصدق , لأن الذي صدق الله في كل أموره , صنع الله له فوق ما يصنع لغيره .
وبسلامة الصدر يُرزق الإنسان الحلم ، وليس الحليم من ظلم فحلم , حتى إذا قدر فعفا لسلامة صدره .
وبسلامة الصدر يُرزق الإنسان البذل , ومداعبة الرفيق , وحب العطاء , وهذه وسائل لا تنطلق إلا من قلب سليم , ولا يجدى فيها الادّعاء , فسرعان ما ينكشف .
وبسلامة الصدر يُرزق الإنسان التواضع , فالكل أفضل منه , والكل أحسن منه ، سئل الحسن عن التواضع , فقال : أن تخرج من بيتك , فلا تلقى أحداً , إلا رأيت له الفضل عليك .
ويقول أبو عباد : ما جلس إلىّ رجل قط , إلا خُيّل إلى أني سأجلس إليه .
وبسلامة الصدر يُرزق الإنسان الرفق , فيدرك به مالا يدرك بالعنف , فيكون كالماء على لينه , يقطع الحجر على شدته .
الاقدام وتقديم التضحيات : لا يقبل على الإقدام والشجاعة وتقديم التضحيات ، وعدم التهاون أو الاتنازل أو التخاذل , إلا سليم الصدر من الآفات التي تعلقه بها ، وكثيراً ما كان الأبطال يرددون هذا البيت :
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما
وفي وصفهم قال الشاعر :
قوم إذا لبسوا الحديد حسبتهم لم يحسبوا أن المنية تُخلقُ
في حين نرى صوراً قميئة للمتخاذلين , يقول أحدهم :
للحرب قوم أضلّ الله سعيهم إذا دعتهم إلى نيرانها وثبوا
ولآخر :
وقالوا تقدم قلت لست بفاعل
وآخر اعتمد على تاريخه السابق :
وليس يعاب المرء من جبن يومه إذا عُرفت منه الشجاعة بالأمسِ
وسر الإقدام سلامة الصدور , وصدق النيات لله , وخلوص القصد , مصداقا لقول الشاعر :
وخارج أخرجه حب الطمع فر من الموت وفي الموت وقع
من كان ينوى أهله فلا رجع
وأخيرا : قيل للمهلب : بم أدركت ما أدركت ؟ قال : بالعلم , قيل له : فإن غيرك قد علم أكثر مما علمت , ولم يدرك ما أدركت ؟ قال : ذلك علم حُمل , وهو علم استَعمل .
وسلامة الصدور من الأعمال والسلوكات ، وهى لا تنفك عن التحقيق ، ولا ينفع فيها القول والكلمات , بل الممارسات والأفعال .
وهناك فرق شاسع بين سلامة الصدر التى تحجبك عن الأخطاء ، وبين الذكاء الذى يخرجك من الأخطاء ، وهذا الإدراك يحتاج إلي عقل ناضج يفوق داهية الإسلام , عمروبن العاص , قال معاوية لعمرو بن العاص : ما بلغ من عقلك ؟ قال : ما دخلت في شيء قط إلا خرجت منه , فقال معاوية : لكنى ما دخلت في شيء قط أريد الخروج منه .
فسلامة الصدر إنقاذ في زماننا , الذي تضاءلت فيه فرص النجاة ، وحتي لا ننعى حالنا مع الشاعر :
كنت من كربنى أفرّ إليهم فهم كربتي أين الفرار ؟
ولكن الثبات على سلامة الصدر , والإصرار على التحقق به دوماً , هو العاصم الوحيد في حياة المؤمن اليوم , وأراه يردد وأن تنكرت له القلوب :
عجبت لقلبك كيف انقلب ومن طول ودّك أنى ذهب ؟
وأعجب من ذا وذا إننى أراك بعين الرضا في الغضب
فإلى النجاة بما في الصدور من سلامة حتى يتحقق الاستثناء الربانى : [
إلا من أتى الله بقلب سليم ] الشعراء / 89 .
في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ، فالكلام إلى نية المتكلم , والصنائع إلي سلامة الصدر ، قال معاوية لعقيل بن أبي طالب : لا يرضينى منك إلا أن تلعن علياً على المنبر ! فصعد المنبر ثم قال : أيها الناس إن أمير المؤمنين أمرني أن ألعن علياً , فالعنوه لعنه الله : (
فأدركها معاوية ) فقال : إنك لم تبين من لعنت ؟ قال : (
الكلام إلي نية المتكلم ) , وكذلك الأفعال إلي سلامة الصدور .